العدل من القيم العظيمة التي حرصت عليها شريعتنا الغراء ، فتجد ربنا تبارك و تعالى يقول في محكم آياته و هو أصدق القائلين "
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " النحل :90 ، و يؤكد سبحانه على ضرورة الحق في الفصل بين الناس فيقول" إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا " النساء :105
من هنا يتبين لنا أن قيمة العدل هي تلك القيمة العظيمة التي حرص الإسلام على إقامتها في الأرض ، هذا العدل جعل كل من رضى بالله ربا و بالإسلام دينا و بمحمدا صلى الله عليه و سلم نبيا أن يتخذه منهاجا في حياته ، فطبع به نفوس المسلمين الأوائل و تشكلت به أخلاقهم ، ترى هذا في موقف عبد الله بن رواحة رضي الله عنه حين حاول اليهود شراء ذمته بالرشوة
لكن ابن رواحة واجههم بما لم يكونوا يتوقعون وقال لهم في إيمان القوي، وقوة المؤمن: يا معشر اليهود، والله إنكم لأبغض خلق الله إليَّ، وما ذاك بحاملي أن أحيف عليكم، وأما ما عرضتم عليَّ من الرشوة، فإنها سُحت، وإنا لا نأكلها، ثم خرَّص عليهم، ثم خيرهم أن يأخذوها أو يأخذها هو، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض!

و بدأ خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم حكمه برفع العدل كمنهج فتجده يقول (أيها الناس إني قد وليت عليكم و لست بخيركم ، إن أحسنت فأعينوني ، و إن أسات فقوموني )
..إن اعترافه بإمكانية الخطأ و طلب التقويم من الناس إن ظهر لهم هذا الخطأ يحمل في طياته معنى عظيم و هو الإقرار بالآدمية و الاعتراف بالخطأ ... فالعصمة ماتت مع موت النبي صلى الله عليه و سلم ، و ها هو خليفته يتواضع أمام الحق ، و كيف لا و قد تعلم من صاحبه صلى الله عليه و سلم " الكبر بطر الحق و غمط الناس " رواه مسلم

كانت هذه بداية لابد منها قبل التعرض لموقف الشيخ محمد حسين يعقوب – حفظه الله – من التصويت على التعديلات ، فقد أخطأ الشيخ – عفا الله عنه – حين وضع في سلة واحدة الشرفاء ممن رأى في "لا" مصلحة الوطن مع هؤلاء الذين رأوا في "نعم " ، تقوية للساسة الإسلاميين فاختاروا "لا " ، و لوح بيده في إشارة واضحة للهجرة لمن لم يعجبه نتيجة التعديلات ।

لقد اخطأ الشيخ و من ثم كان عليه الاعتذار ، هذا الذي تعلمناه منه إذا أخطأنا فهو من باب رد الحقوق إلى أهلها " كل المسلم على المسلم حرام : دمه و ماله و عرضه " ، فما كان منه – عفا الله عنه – إلا أن خرج في ( فيديو ) آخر يبرر الموقف بالعفوية و نشوة الفرحة ، و كفل الخرية لمن صوت بلا ، و هذا في رأيي إضافة خطأ إلى خطأ ، فالخطأ يُعتذر عنه لا يُبرر . فللشيخ مكانة عظيمة في قلوبنا ، و لدعوته صدى كبير في نفوسنا ، و نحن نقدر فيه صفة البشرية ، و نتفهم إمكانية أن يخطأ ، و ما كان الاعتذار ليقلل من مكانته لدينا أبدا بل على العكس سيرفعها و الله .

أنا اقول هذا من باب الحب ؛ لأني احب الشيخ و أتعلم منه ، صحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم اخبرنا أن لحوم العلماء مسمومة ، و لكن لا ينبغي أن يستخدم هذا الحديث أبدا كفزاعة أو كأداة إخراس لكل من أن ينتقد نقدا بناءً ، و كيف يستخدم و قد وضع خليفته و صديقه أبو بكر رضي الله عنه تقويم الخطأ أساسا لحكمه !؟


إن السلفية كمنهج تلزمنا أن نقول للمحسن أحسنت جزاك الله خيرا ، كما تلزمنا أن نقول للمسئ أسأت تب إلى الله و استغفر لذنبك ، إن السلفية كمنهج تلزمنا أن نفرق بين من ينتقدنا بحب ليبنينا فنقول له : جزاك الله خير ، رحم الله رجلا أهدى إلي عيوبي ، و بين من ينتقدني بكره ليهدمني فأقول له كما قال إبراهيم الخليل لأبيه
"قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً (مريم :47)

إن خطورة غض الطرف عن مثل هذه المواقف و عدم تبيين خطأها ، لا يكمن فقط في سكوت عن الحق و هو لا يرضاه الله ، بل يتجاوز خطرها أعظم من ذلك فإن المغالاة في حب الشيوخ و تنزيههم عن الخطأ كفيل أن يفقدك هذا الذي ينتقد النقد البناء و يحولهم جميعا إلى معسكر النقد الهدام مادمت لا تصغي لقولهم .

و عليها فلا يظن ظان أن تقوى الله تكون بالسكوت عن الخطأ بحجة أنها تجرؤ الناس على العلماء ، لا و الله فالمقامات محفوظة و الأخطاء منتقدة ، ألا و ليعلم كل امرئ ان تقوى الله تكون بالحق و العدل في القول "
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ "( المائدة :8) .

اللهم اغفر لشيخنا و اعف عنه و بارك في دعوته .
"ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم"غافر: 7
"وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ" الحشر :9

و الحمد لله رب العالمين.