الدموع لدى الكثيرين رمز الضعف ؛ فليس لديهم من قوة الشكيمة فى الرجل أن تدمع عيناه ، غير أنى أفخر بأنى ليس من هؤلاء الكثيرين ، ربما تعجب لو قلت لك أنى أحب الدموع .....نعم أحبها ، فأنا لا أرى فى الدموع سائل الشرف الذى لا ينبغى أن يهرق من مآقى الرجال ، و لا أرى فيها آية الخور و الضعف الذى تراه الأم فى طفلها إذا رأته يبكى فتعارضه قائلة : (فى راجل يعيط) ؟!!!!


نعم يا سيدتى :( فى راجل يعيط )، و ماذا يضير الرجولة البكاء ؟ بل ماذا تعرفين أنت عن الرجولة أصلا ؟!!!!
ألم تسمعى (قيس بن الملوح) ينشد صاحبيه البكاء فيقول:
خليلى إلا تبكيا لى ألتمس ............... خليلاإذا أنزفت الدمع بكى ليا
و لعل أذنيك لم تطرب لقول ابن النبيه :
يا عين عذرك فى حبيبك واضح .......... سحى لوحشته دما أو أدمعا
إننا يا سيدتى كثيرا ما نكون فى حاجة إلى البكاء ، بل لك أن تقولى أن هناك أمورا لا ينفع معها غير البكاء ، إن البكاء هو السائل الذى يهب لحياتنا الراحة مثلما يجلب الدم لأجسادنا الحياة ....... فمتى كنا فى غنى عن الدم فنحن فى غنى عن الدموع.

إن الدموع هى الذروة ....... ذروة الفرح و ذروة الحزن......... ذروة الندم و ذروة الاشتياق.........ذروة الخوف و ذروة الألم .......و فى كثير من الأحيان هى ذروة الرحمة أيضا.

مازلت أذكر يا سيدتى أيام أوائل الطلاب فى المرحلة الثانية من ثانويتى العامة من سنين خمس مضين ، كان يوم المسابقة النهائية بيننا و بين مدرسة البنات هى نفسها التى أذاقتنا الهزيمة فى المرحلة الأولى ، حين خرجت منها تاركا خلفى زغاريدهن
و صياحهن، أعدو لا تعرف قدماى أين تذهب ، و لا تعرف دموعى انقطاعا ، حتى استقرت جهدى فى شارع منزوٍ عن مدرستهن و تركت لمقلتى العنان فجادت بما شاءت ، وجاءت الفرصة ثانية لنعاود استرداد مجدنا هكذا كنا نفكر حينها و بالفعل عاد الكأس لحوزتنا ، هنا جادت مقلتى أيضا ، لكنها دموع تختلف عن سابقتها ، إنها دموع تغلفها الفرحة و تحمل فى طياتها شعور بالعزة ، دموع تغسل سوادا قرّح العين من جهد أيام ........أيام أفتقدها كثيرا و لا أعلم هل ستعود أم لا ؟!

هل لى أن أذكر لك عبرات أخرى سعدت بشق مجراها فى وجنتى ، إنها عبرات اختنقت من طول ما حبستها فى مآقيي حتى سمحت لها بالنصراف فى طريقها المعهود ، إنها فى حفل زفاف صديقى و أخى الأكبر الذى لم ينجبه أبى ، و لم تهدنيه أمى ، إنما جمعنا المسجد ، كنت فى قمة سعادتى رغم أنى كنت أعرف أن زواجه و الذى كان من شهور قليلة سيحول بينى بين لقائه ، و سأشتاق إلى حديثه الدمث ؛ ذلك الحديث الذى كان يستمر أحيانا من التاسعة مساءا حتى الواحدة بعد منتصف الليل لا أمله و لا يملنى ، و كيف أمل حديثه و هو الخَلِق الخلوق ، توفى عنه والده و لحقت بوالده والدته بعد قليل ، عرفته منذ كنت فى الرابعة عشر من عمرى ، كان حينها فى السادسة و العشرين ، كان مثالا يحتذى فى الأخلاق و الدين ، شأنه شأن حملة القرآن و كان حاملا له منذ عرفته ، كان أول من فتح معى المصحف ، أول من علمنى معنى انتسابى لإسلامى ، لم يتركنى حين تركته ، لقد عرفت به معنى لم أعرفه من أحد قبله .....نعم عرفت به الحب فى الله.

فرحت و شعرت أن الآية تتمثل أمامى " إنه من يتق و يصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين "......ألا تستحق هذه الأمور العبرات يا سيدتى؟!!!

إنك و لا شك تحتاجين أن تراجعى مفهومك عن الرجولة ، كما أنى أخشى علي زوجك أن تحرميه البكاء إن كان البكاء سينقص من رجولته لديك ....... حينها سنكون فى حاجة أن نبكى على حاله !!!!!