و ليستعفف

نحن نحتاج أن نفصل بين أوقات الماكرة بدقائق ترفيهية لنعاود بها نشاطنا بإقبال أكبر ، كان هذا في إحدى الليالي ، فقط قررت أن أستريح بعض الشئ ، فوجدت نفسي مستلقيا على فراشي أقلب عيني في كتاب رجال من التاريخ للشيخ على الطنطاوي رحمه الله بنسخته الألكترونية – وفرت لنا كثيرا هذه الكتب – و الذي نقلني بدوره على كتاب آخر ، اسمه من غزل الفقهاء ، لا تسألني كيف ؛ فقد وجدت نفسي على (فورشيرد) أحمل الكتاب المذكور و أغرق في قراءته و لم أفق إلا بعد أن امتدت هذه الدقائق لساعة ونصف ......ليتني أعرف أجلسها على احدى كتب الطب.

بدأ أديب الفقهاء كتابه بالرد على من أنكر عليه الكتابة في هذا اللون من الأدب ، تورعا منه و ظناً أنه لا يليق بشيخ فقيه بل قاضي شرعي ، فكتب له مقدمة ذات حس أدبي عميق ثم شرع في إيراد أمثلة غزل الفقهاء.

قال الله تعالى في كتابه وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) النور

و كان دعاء النبي صلى الله عليه و سلم : اللهم إني أسالك الهدى و التقى و العفاف و الغنى.

جميل هذا الحس القرآني ، ها نحن بعد قراءتنا لتفسيرها هلم نستمع إلى صوت قلوبنا بما يفيضه الله علينا من معانٍ تدبرية في كلامه أحسن الحديث.

في هذه الآيات أمر الله الأولياء بتزويج مواليهم و إمائهم ، ناهيا أن يكون سبب الامتناع خشية الفقر الناتج عن كثرة العائلة و نحوه ، لكن الله تبارك و تعالى يطمئن بحنانه فيقول " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله "

تأتي الآية التي تليها بأمر المتقدم بالعفاف ، إن حيل بينه و بين ما يسعى إليه ، بل و يعده بمنه و فضله أنه يغنيه من فضله و من أصدق منه قيلا سبحانه ؟

جميل هذا الأمر القرآني أن يعكس شعورا واضحا نمارسه جميعا ، فحين يكون هناك طرفان في قضية مختلفين ، أنت تحاول أن تثني كلا منهما عن رغبته ، و هكذا يكون وطن نفسه على أسوأ الاحتمالات ، هل تذكر يوما أن كنت طرفا في قضية صلح بين طرفين ، فأنت تأتي الأول و تقنعه بالبدء ، و تاتي الثاني و تقنعه بالبدء ، و هكذا يصبح كلا منهما مهيئا لتقبل الأمر الذي يكره و هكذا تنجح الفكرة ، فكلاهما أصبح مهيئا التقبل الأمر .

و الشاب المؤمن وقاف عند حدود الله لا يتعداها ، و لا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ، فهو يعلم تماما انه لن يصيبه منها إلا ما قدر له ، فلا يحمله استبطاء الرزق على التعجل لنيله بإصابة حرام .

و في مجتمع مختلط كهذا الذي نحيا في أكنافه ليس غريبا أن يتسرب شعور كهذا إلى القلوب ، و هذا لا يقدح في ديانة المرء ، فالشرع جاء ليهذب الفطرة لا ليلغيها ، فمعارضة أمر كهذا من الأمور التي تخرج عن وسع النفس التي لا يكلفها الله إلا وسعها .

و قد ذكر ابن القيم في الداء و الدواء هذه القصة الطريفة فقال:

و ذكر الخرائطي عن ابي غسان قال : مر ابو بكر الصديق رضي الله عنه بجارية وهي تقول :

و هويته منىقبل قطع تمائمي ......... متمايلا مثل القضيب الناعم

فسألها : أحرة انت أم مملوكة ؟ قالت : بل مملوكة فقال : من هواك ؟ فتلكأت ، فأقسم عليها فقالت :

و أنا التي لعب الهوى بفؤادها.......... قتلت بحب محمد بن القاسم

فاشتراها من مولاها و بعث بها إلى محمدج بن القاسم بن جعفر بن أبي طالب ، فقال هؤلاء فتن الرجال ، و كم و الله قد مات بهن كريم ، و عطب بهن سليم. أهـ

إن المتأمل لهذه الواقعة يجد أنه لم يعتب عليها أمرا كهذا فهي ما زالت تربط على قلبها ولم تصب حراما ، إنما خشى عليها و على محمد بن القاسم الفتنة فجمع بينهما ....إنه أدرك أنه امر لا طاقة لها على صرفه.