حين سألت ذلك الشيخ من عامين عن اسم الكتاب الذي قرأ علي منه أحد الأوراد ، رفض أن يعطنيه معللا ذلك بخوفه من رميي له بالضلال الفكري لأني لم أنضج فكريا بعد.... من أشهر قليلة جلست أمام التلفاز أشاهد برنامج (الرد الجميل ) ، و كانت الحلقة في استضافة الدكتور محمد عمارة يحلل الغزو الفكري للعالم الإسلامي ، و كان قد فصل بين صنفين من مروجي الأفكار أحدهما المغرضين الماكرين بهذه الأمة أمثال سلامة موسى و لويس عوض ، و هؤلاء الذي قاموا بمراجعات فكرية تبرأوا فيها من أفكارهم أمثال طه حسين و قاسم امين فيما وصفه بالنضج الفكري.

و النضج الفكري هذا نمر به جميعا ، فكم من فكرة كنا من أشد المدافعين عنها ، ثم صرنا من أعتى خصومها حين تبين لنا فسادها ، إن تحلي المرء بالمرونة و اعراضه عن الدوجماطيقية ظاهرة صحية في كثير من الأحيان ما لم تمتد براثنها لثوابت لا مجال للمرونة فيها ، تلك الثوابت التي عمد إليها النبي صلى الله عليه و سلم في دعائه : اللهم يا مقلب القلوب و الأبصار ثبت قلبي على دينك ، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك.

أما النمو الاجتماعي و الذي يمثل علاقتنا بالآخرين يمر بمراحل عديدة ، و هو أسبق بداية من نمونا الفكري ، و آخر نهاية منه ايضا ، فالنمو الاجتماعي يبدأ بتعرف الوليد على والديه و إخوته ، ثم زملاء الدراسة ، مرورا بخوض معترك الحياة و السعي نحو الرزق والعمل انتهاءا باالزواج .

من هنا يتبين لك ان نموك الاجتماعي يبدأ قبل نموك الفكري ، فالأول تحركه عاطفتك تجاه و الديك و إخوتك ثم نفسك التي تنأى بك عن العزلة فتنبسط للآخرين ، أما نموك الفكري فمفاده الافكار التي تكتسبها سواء بالقراءة أو السمع أو المشاهدة على مدار حياتك و تحليلك لتلك الافكار و تجميعها في ثوب واحد ترتديه طيلة عمرك.

هذا و إن كان المرء في مراحل عمره المختلفة يمر بفترات نمو هذين الجانبين غير أن مقدار ذلك النمو يختلف تبعا للمرحلة العمرية ، فيكون في مقتبل عمر الطفل منحنى نموه الاجتماعي في ازدياد مطرد ، في حين ينمو منحنى نموه الفكري حثيثا ، يأتي التعليم الأساسي و الثانوي فينمو المنحنيان كلاهما مع كون الغلبة لمنحني النمو الفكري ، هذا النمو الفكري الذي يكاد يبلغ ذروته في المرحلة الجامعية حينها تزداد الهوة بين المنحنيين .

إن هذه الهوة جديرة بإحداث خلط بين المنحنيين و خلط بين الأمور التي تترتب عليهما ، فتجد الفرد يدفعه اغتراره بنموه الفكري إلى تلمس أمورا تتطلب نضجا اجتماعيا لا يتوافر له ، فيحدو ذلك الظمآن بخطوات وثابة نحو سراب الأماني الذي حسبه ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده ماء و اصطدم برعونته و نظرته القاصرة تحت قدميه ....إن الذي ينسج أوهاما من الخيال عليه أن يتحمل مشنقه الواقع التي قوامها نسيجه هذا.